فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

وقوله: {والسماءَ}.
نصب بإضمار فعل تقديره: وبنينا السماء بنيناها. والأيد: القوة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، ووقعت في المصحف بياءين وذلك على تخفيف الهمز، وفي هذا نظر.
وقوله: {لموسعون} يحتمل أن يريد: إنا نوسع الأشياء قوة وقدرة كما قال تعالى: {على الموسع قدره} [البقرة: 236] أي الذي يوسع أهله إنفاقًا، ويحتمل أن يريد: {لموسعون} في بناء السماء، أي جعلناها واسعة وهذا تأويل ابن زيد وقال الحسن: أوسع الرزق بمطر السماء و(الماهد) المهيئ الموطئ للموضع الذي يتمهد ويفترش.
وقوله تعالى: {ومن كل شيء خلقنا زوجين} أي مصطحبين ومتلازمين، فقال مجاهد معناه أن هذه إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء كالليل والنهار والشقوة والسعادة والهدى والضلالة والأرض والسماء والسواد والبياض والصحة والمرض والكفر والإيمان ونحو هذا، ورجحه الطبري بأنه دل على القدرة التي توجد الضدين، بخلاف ما يفعل بطبعه فعلًا واحدًا كالتسخين والتبريد. وقال ابن زيد وغيره: هي إشارة غلى الأنثى والذكر من كل حيوان والترجي الذي في قوله: {لعلكم} هو بحسب خلق البشر وعرفها. وقرأ الجمهور {تذّكرون} بشد الذال والإدغام. وقرأ أبي بن كعب: {تتذكرون} بتاءين وخفة الذال.
وقوله: {ففروا} أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله، وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار لينبه على أن وراء الناس عقابًا وعذابًا وأمرًا حقه أن يفر منه، فجمعت لفظة (فروا) بين التحذير والاستدعاء، وينظر إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» الحديث، قال الحسن بن الفضل: من فر إلى غير الله.
وقوله: {ولا تجعلوا مع الله} الآية نهي عن عبادة الأصنام والشياطين وكل مدعو من دون الله وفائدة تكرار قوله: {إني لكم منه نذير مبين} الإبلاغ وهز النفس وتحكيم التحذير وإعادة الألفاظ بعينها في هذه المعاني بليغة بقرينة شدة الصوت.
وقوله تعالى: {كذلك} تقديره: سيرة الأمم كذلك، أو الأمر في القديم كذلك. وقوله: {إلا قالوا ساحر أو مجنون} معناه: إلا قال بعض: هذا وبعض: هذا وبعض: الجميع ألا ترى أن قوم نوح لم يقولوا قط: {ساحر} وإنما قالوا: {به جنة} [سبأ: 8] فلما اختلف الفرق جعل الخبر عن ذلك بإدخال أو بين الصفتين، وليس المعنى أن كل أمة قالت عن نبيها إنه ساحر أو هو مجنون، فليست هذه كالمتقدمة في فرعون، بل هذه كأنه قال: إلا قالوا هو ساحر وهو مجنون.
قوله تعالى: {أتواصوا به} توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة في تكذيب الأنبياء على تفرق أزمانهم أي أنهم لم يتواصوا، لكنهم فعلوا فعل من يتواصى.
والعلة في ذلك أن جميعهم طاغ، والطاغي: المستعلي في الأرض المفسد العاتي على الله.
وقوله تعالى: {فتول عنهم} أي عن الحرص المفرط عليهم، وذهاب النفس حسرات، ويحتمل أن يراد: فقول عن التعب المفرط في دعائهم وضمهم إلى الإسلام فلست بمصيطر عليهم ولست {بملوم} إذ قد بلغت، فنح نفسك عن الحزن عليهم، وذكر فقط، فإن الذكرى نافعة للمؤمنين ولمن قضي له أن يكون منهم في ثاني حال، وعلى هذا التأويل: فلا نسخ في الآية. إلا في معنى الموادعة التي فيها، إن آية السيف نسخت جميع الموادعات.
وروى قتادة وذكره الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما نزلت {فتول عنهم فما أنت بملوم} حزن المسلمون وظنوا أنه مر بالتوالي عن الجميع وأن الوحي قد انقطع حتى نزلت: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} فسروا بذلك.
وقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} اختلف الناس في معناه مع إجماع أهل السنة على أن الله تعالى لم يرد أن تقع العبادة من الجميع، لأنه لو أراد ذلك لم يصح وقوع الأمر بخلاف إرادته، فقال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي، وليقروا لي بالعبودية فعبر عن ذلك بقوله: {ليعبدون} إذ العبادة هي مضمن الأمر، وقال زيد بن أسلم وسفيان: المعنى خاص، والمراد: {وما خلقت} الطائعين من {الجن والإنس} إلا لعبادتي، ويؤيد هذا التأويل أن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: {وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدوني}، وقال ابن عباس أيضًا معنى: {ليعبدون} أي ليتذللوا لي ولقدرتي، وإن لم يكن ذلك على قوانين الشرع.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل فجميع الجن والإنس عابد متذلل والكفار كذلك، ألا تراهم عند القحط والأمراض وغير ذلك. وتحتمل الآية، أن يكون المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا معدين ليعبدون، وكأن الآية تعديد نعمة، أي خلقت لهم حواس وعقولا وأجسامًا منقادة نحو العبادة، وهذا كما تقول: البقر مخلوقة للحرث، والخيل للحرب، وقد يكون منها ما لا يحارب به أصلًا، فالمعنى أن الإعداد في خلق هؤلاء إنما هو للعبادة، لكن بعضهم تكسب صرف نفسه عن ذلك، ويؤيد هذا المنزع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له». وقوله: «كل مولود يولد على الفطرة» والحديث، وقوله: {من رزق} أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم.
وقوله: {أن يطمعون} إما أن يكون المعنى أن يطمعوا خلقي فإضيف ذلك إلى الضمير على جهة التجوز، وهذا قول ابن عباد. وإما أن يكون الإطعام هنا بمعنى النفع على العموم، كما تقول: أعطيت فلانًا كذا وكذا طعمة، وأنت قد أعطيته عرضًا أو بلدًا يحييه، ونحو هذا فكأنه قال: ولا أريد أن ينفعوني، فذكر جزءًا من المنافع وجعله دالًا على الجميع.
وقرأ الجميع: (إن الله هو الرزاق).
وروى أبو إسحاق السبيعي عن عبد الله بن يزيد، قال أبو عمرو الداني عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني أنا الرزاق) وقرأ الجمهور: {إن الله هو الرزاق} وقرأ ابن محيصن {هو الرازق}.
وقرأ جمهور القراء: {المتينُ} بالرفع إما على أنه خبر بعد خبر، أو صفة ل {الرزاق}. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش {المتينِ} بالخفض على النعت ل {القوة}، وجاز ذلك من حيث تأنيث {القوة} غير حقيقي. فكأنه قال: ذو الأيد، أو ذو الحبل ونحوه {فمن جاءه موعظة} [البقرة: 275] وجوز أبو الفتح أن يكون خفض {المتينِ} علىلجواز و: {المتين}: الشديد.
وقوله تعالى: {فإن للذين ظلموا} يريد أهل مكة، وهذه آية وعيد صراح، وقرأ الأعمش {فإن للذين كفروا}. والذنوب: الحظ والنصيب، وأصله من الدلو، وذلك أن الذنوب هو ملء الدلو من الماء، وقيل الذنوب: الدلو العظيمة، ومنه قول الشاعر: الرجز:
إنا إذا نازلنا غريب ** له ذنوب ولنا ذنوب

فإن أبيتم فلنا القليب

وهو السجل، ومنه قول علقمة بن عبدة: الطويل:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ** فحق لشأس من نداك ذنوب

فيروى أن الملك لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة، ومنه قول حسان: الطويل:
لا يبعدن ربيعة بن مكدم ** وسقى الغوادي قبره بذنوب

و {أصحابهم} يريد به من تقدم من الأمم المعذبة. وقوله: {فلا يستعجلون} تحقيق للأمر، بمعنى هو نازل بهم لا محالة في وقته المحتوم، فلا يستعجلوه، وقرأ يحيى بن وثاب: {فلا تستعجلون} بالتاء من فوق.
ثم أوجب تعالى لهم الويل من يومهم الذي يأتي فيه عذابهم. والويل: الشقاء والهم، وروي أن في جهنم واديًا يسمى: ويلًا. والطبري يذهب أبدًا إلى أن التوعد إنما هو به، وذلك في هذا الموضع قلق، لأن هذا الويل إنما هو {من يومهم} الذي هو في الدنيا، و: {من} لابتداء الغاية. وقال جمهور المفسرين: هذا التوعد هو بيوم القيامة. وقال آخرون ذكره الثعلبي هو يوم بدر. وفي: {يوعدون} ضمير عائد، التقدير: يوعدون به، أو يوعدونه.
نجز تفسير سورة (الذاريات) والحمد لله رب العالمين كثيرًا، وصلى الله عليه سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وعن جميع تابعيه. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)} أي: وبنينا السماء، فهو من باب الاشتغال، وكذا وفرشنا الأرض.
وقرأ أبو السمال، ومجاهد، وابن مقسم: برفع {السماء} ورفع {الأرض} على الابتداء.
{بأيد}: أي بقوة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وهو كقوله: {داود ذا الأيد} {وإنا لموسعون}: أي بناءها، فالجملة حالية، أي بنيناها موسعوها، كقوله: جاء زيد وإنه لمسرع، أي مسرعًا، فهي بحيث أن الأرض وما يحيط من الماء والهواء كالنقطة وسط الدائرة.
وقال ابن زيد قريبًا من هذا وهو: أن الوسع راجع إلى السماء.
وقيل: لموسعون قوة وقدرة، أي لقادرون من الوسع، وهو الطاقة.
وقال الحسن: أوسع الرزق بالمطر والماء.
{فنعم الماهدون}، و{خلقنا زوجين}، قال مجاهد: إشارة إلى المتضادات والمتقابلات، كالليل والنهار، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلال، والسماء والأرض، والسواد والبياض، والصحة والمرض، والكفر والإيمان، ونحو ذلك، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة التي توجد الضدين، بخلاف ما يفعل بطبعه، كالتسخين والتبريد.
ومثل الحسن بأشياء مما تقدم وقال: كل اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثل له.
وقال ابن زيد وغيره: {من كل شيء}: أي من الحيوان، {خلقنا زوجين}: ذكرًا وأنثى.
وقيل: المراد بالشيء الجنس، وما يكون تحت الجنس نوعان: فمن كل جنس خلق نوعين من الجواهر، مثل النامي والجامد.
ومن النامي المدرك والنبات، ومن المدرك الناطق والصامت، وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه.
{لعلكم تذكرون}: أي بأني باني السماء وفارش الأرض وخالق الزوجين، تعالى أن يكون له زوج.
أو تذكرون أنه لا يعجزه حشر الأجساد وجمع الأرواح.
وقرأ أبي: {تتذكرون}، بتاءين وتخفيف الذال.
وقيل: إرادة أن تتذكروا، فتعرفوا الخالق وتعبدوه.
{ففروا إلى الله}: أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله، وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار، لينبه على أن وراء الناس عقاب وعذاب.
وأمر حقه أن يفر منه، فجمعت لفظة ففروا بين التحذير والاستدعاء.
وينظر إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ملجأ وملا منجا منك إلا إليك»، قاله ابن عطية، وهو تفسير حسن.
وقال الزمخشري: إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه، ووحدوه ولا تشركوا به شيئًا.
وكرر {إني لكم منه نذير مبين}، عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما.
ألا ترى إلى قوله: {لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا} والمعنى: قل يا محمد ففروا إلى الله.
انتهى، وهو على طريق الاعتزال.
وقد رددنا عليه في تفسير {لا ينفع نفسًا إيمانها} في موضع هذه الآية.
{كذلك}: أي أمر الأمم السابقة عند مجيء الرسل إليهم، مثل الأمر من الكفار الذين بعثت إليهم، وهو التكذيب.
{ساحر أو مجنون}: أو للتفصيل، أي قال بعض ساحر، وقال بعض مجنون، وقال بعض كلاهما، ألا ترى إلى قوم نوح عليه الصلاة والسلام لم يقولوا عنه إنه ساحر، بل قالوا به جنة، فجمعوا في الضمير ودلت أو على التفصيل؟ {أتواصوا به}: أي بذلك القول، وهو توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة على تكذيب الأنبياء، مع افتراق أزمانهم، {بل هم قوم طاغون}: أي لم يتواصوا به، لأنهم لم يكونوا في زمان واحد، بل جمعتهم علة واحدة، وهي كونهم طغاة، فهم مستعلون في الأرض، مفسدون فيها عاتون.
{فتول عنهم}: أي أعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة، فلم يجيبوا.
{فما أنت بملوم}: إذ قد بلغت ونصحت.
{وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}: تؤثر فيهم وفيمن قدر الله أن يؤمن، وما دل عليه الظاهر من الموادعة منسوخ بآية السيف.
وعن عليّ، كرم الله وجهه: لما نزل {فتول عنهم}، حزن المسلمون وظنوا أنه أمر بالتولي عن الجميع، وأن الوحي قد انقطع، نزلت {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}، فسروا بذلك.
{إلا ليعبدون}: أي {وما خلقت الإنس والجن} الطائعين، قاله زيد بن أسلم وسفيان، ويؤيده رواية ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين» وقال علي وابن عباس: {إلا ليعبدون}: إلا لآمرهم بعبادتي، وليقروا لي بالعبادة.
فعبر بقوله: {ليعبدون}، إذ العبادة هي مضمن الأمر، فعلى هذا الجن والإنس عام.
وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: إلا معدين ليعبدون، وكأن الآية تعديد نعمه، أي خلقت لهم حواس وعقولا وأجسامًا منقادة، نحو: العبادة، كما تقول: هذا مخلوق لكذا، وإن لم يصدر منه الذي خلق له، كما تقول: القلم مبري لأن يكتب به، وهو قد يكتب به وقد لا يكتب به، وقال الزمخشري: إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها.
فإن قلت: لو كان مريدًا للعبادة منهم، لكانوا كلهم عبادًا.
قلت: إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها، لأنه خلقهم ممكنين، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدًا لها، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم.
انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.
وقال مجاهد: {إلا ليعبدون}: ليعرفون.
وقال ابن زيد: لأحملهم في العبادة على الشقاوة والسعادة.
وقال الربيع بن أنس: إلا للعبادة، قال: وهو ظاهر اللفظ.
وقيل: إلا ليذلوا لقضائي.
وقال الكلبي: إلا ليوحدون، فالمؤمن يوحده في الشدة والرخاء، والكافر في الشدة.
وقال عكرمة: ليطيعون، فأثيب العابد، وأعاقب الجاحد.
وقال مجاهد أيضًا: إلا للأمر والنهي.
{ما أريد منهم من رزق}: أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم.